الحسابات الفلكية و اثبات شهر رمضان: رؤية فقهية 2

إن تاريخنا الإسلامي والفقهي زاخر بالكثير من هذه الأمثلة التي تَغير فيها الحكم بتغير العلة، ولا ننسى هنا أن كل جديد مُحارَب، وكل ما هو خارج عن العادة والمألوف مرفوض إلى حين، ثم عندما تثبت صحته ويطمئن له الخلق يصبح هو العادة وهو المألوف، ويصبح من خولف وهوجم بالأمس _على رأيه_ من المجتهدين ومن الفقهاء ذوي البصيرة. هذه سنة الله في خلقه؛ يرفضون كل جديد فقط لأنه جديد؛ حتى دين الله وتوحيده رفض لنفس العلة (ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين). ثم أنه عندما تبين الخلق صحة هذا الدين وعدله دخلوا فيه أفواجا.

وما موضوع استخدام الحسابات الفلكية إلا واحد من هذه الأمور التي رفضت في بداية طرحها فقط لأنها غير مألوفة، وتسير على غير ما جرت عليه العادة عند المسلمين. كذلك كان الحال في بداية استخدام ذات الحسابات في تحديد اتجاهات القبلة. فقد ثار الكثير من العلماء مثل الإمام أحمد بن حنبل، وابن رجب الحنبلي، وغيرهم من أجلاء الفقهاء، ثاروا ضدها واعتبروها ضلالاً وتضليلاً للمسلمين، واستخدامها يفيد بأن صلاة الصحابة كانت باطلةً عندما فتحوا المدن وحددوا القبلة مابين الشرق والغرب استناداً إلى قول النبي في مارواه عنه عمر، وصلّوا على هذا الأساس. فقد روي عن النبي: "عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ."[1]  وروي الإمام مالك: "و حَدَّثَنِي عَنْ مَالِك عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ إِذَا تُوُجِّهَ قِبَلَ الْبَيْتِ."[2]

يقول زين الدين عبد الرحمن ابن أحمد المشهور بإبن رجب الحنبلي: "فتبين أن ديننا لا يحتاج إلى حساب ولا كتاب، كما يفعله أهل الكتاب من ضبط عباداتهم بمسير الشمس وحسباناتها، وأن ديننا في ميقات الصيام معلق بما يرى بالبصر وهو رؤية الهلال، فإن غم أكملنا عدة الشهر ولم نحتج إلى حساب. وإنما علق بالشمس مقدار النهار الذي يجب الصيام فيه، وهو متعلق بأمر مشاهد بالبصر - أيضاً -، فأوله طلوع الفجر الثاني، وهو مبدأ ظهور الشمس على وجه الأرض، وآخره غروب الشمس.كما علق بمسير الشمس أوقات الصلاة، فصلاة الفجر أول وقتها طلوع هذا الفجر، وآخره طلوع الشمس، وأول وقت الظهر زوال الشمس، وآخره مصير ظل كل شيء مثله، وهو أول وقت العصر، وآخره اصفرار الشمس أو غروبها، وهو أول وقت المغرب، وآخره غروب الشفق، وهو أول وقت العشاء، وآخره نصف الليل أو ثلثه، ويمتد وقت أهل الأعذار إلى طلوع الفجر، فهذا كله غير محتاج إلى حساب ولا كتاب. وكذلك القبلة ، لا تحتاج إلى حساب ولا كتاب، وإنما تعرف في المدينة وما سامتها من الشام والعراق وخراسان بما بين المشرق والمغرب". [3]

ونقل الأثرم عن أحمد، أنه قيل له: قبلة أهل بغداد على الجدي؟ فجعل ينكر أمر الجدي، فقال: أيش الجدي؟ ولكن على حديث عمر: (ما بين المشرق والمغرب قبلة)".[4]

ويقول ابن رحب أيضاً: "وقد تقدم نصه على أن من مال في صلاته إلى أحد الشقين، ولم يخرج عما بين المشرق والمغرب فصلاته تامة، وأن كان الأفضل أن يتوخى الوسط بينهما. ويدل على ذلك: أن الصحابة لما فتحوا الأمصار وضعوا قبل كثير منها على الجهة، بحيث لا يطابق ذلك سمت العين على الوجه الذي يعرفه أهل الحساب، وصلوا إليها، وأجمع المسلمون بعدهم على الصلاة إليها، وهذا يدل على أن تحرير حساب مسامة العين ليس هو الأفضل، فضلا عن أن يكون واجبا. ولهذا؛ لما خالف في ذلك كثير من الفقهاء المتأخرين، واستحبوا مراعاة العين أو أوجبوه، واستدلوا على ذلك بالنجوم ونحوها رأوا أن كثيرا من قبل البلدان منحرفة عن القبلة، فأوجب لهم ذلك الحيرة والشك في حال سلف الأمة من الصحابة ومن بعدهم. وقد أوجب بعضهم مراعاة ذلك وأمر بهدم كل قبلة موضوعة على خلافه، كما ذكره حرب الكرماني، وهذا يفضي إلى تضليل سلف الأمة، والطعن في صلاتهم".[5]

 انظر كيف كان الأمر في بدايته ثم انظر الآن كيف صار استخدام الحسابات الفلكية هو الأساس في تحديد القبلة والاتجاهات.

كذلك الحال بالنسبة لمواقيت الصلوات الخمس؛ حيث رفضها معظم الفقهاء من جميع المدارس الفقهية رفضاً تاماً في بداية الأمر. وأمروا المسلمين بالالتزام بالسنة والأحاديث الشريفة التي تحدد ظل الشمس وظل الرجل وسيلةً وحيدةً لتعيين أوقات الصلوات. "و حَدَّثَنِي عَنْ مَالِك عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَتَبَ إِلَى عُمَّالِهِ إِنَّ أَهَمَّ أَمْرِكُمْ عِنْدِي الصَّلَاةُ فَمَنْ حَفِظَهَا وَحَافَظَ عَلَيْهَا حَفِظَ دِينَهُ وَمَنْ ضَيَّعَهَا فَهُوَ لِمَا سِوَاهَا أَضْيَعُ ثُمَّ كَتَبَ أَنْ صَلُّوا الظُّهْرَ إِذَا كَانَ الْفَيْءُ ذِرَاعًا إِلَى أَنْ يَكُونَ ظِلُّ أَحَدِكُمْ مِثْلَهُ وَالْعَصْرَ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ بَيْضَاءُ نَقِيَّةٌ قَدْرَ مَا يَسِيرُ الرَّاكِبُ فَرْسَخَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَالْمَغْرِبَ إِذَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ وَالْعِشَاءَ إِذَا غَابَ الشَّفَقُ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ فَمَنْ نَامَ فَلَا نَامَتْ عَيْنُهُ فَمَنْ نَامَ فَلَا نَامَتْ عَيْنُهُ فَمَنْ نَامَ فَلَا نَامَتْ عَيْنُهُ وَالصُّبْحَ وَالنُّجُومُ بَادِيَةٌ مُشْتَبِكَةٌ."[6]

ورواية مسلم يروي ذلك عن النبي:" و حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَقْتُ الظُّهْرِ إِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ وَكَانَ ظِلُّ الرَّجُلِ كَطُولِهِ مَا لَمْ يَحْضُرْ الْعَصْرُ وَوَقْتُ الْعَصْرِ مَا لَمْ تَصْفَرَّ الشَّمْسُ وَوَقْتُ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ مَا لَمْ يَغِبْ الشَّفَقُ وَوَقْتُ صَلَاةِ الْعِشَاءِ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ الْأَوْسَطِ وَوَقْتُ صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ مَا لَمْ تَطْلُعْ الشَّمْسُ فَإِذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ فَأَمْسِكْ عَنْ الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ."[7]

من هذه الأحاديث نرى أن الرسول قد ربط أوقات الصلوات الخمس بمسيرة الشمس ولم يربطها بالحسابات أو أي علامات أخرى، فنصوص الأحاديث صريحة لا تحتمل التأويل، كما قال ابن رجب: "كما علق بمسير الشمس أوقات الصلاة، فصلاة الفجر أول وقتها طلوع هذا الفجر، وآخره طلوع الشمس، وأول وقت الظهر زوال الشمس، وآخره مصير ظل كل شيء مثله، وهو أول وقت العصر، وآخره اصفرار الشمس أو غروبها، وهو أول وقت المغرب، وآخره غروب الشفق، وهو أول وقت العشاء، وآخره نصف الليل أو ثلثه، ويمتد وقت أهل الأعذار إلى طلوع الفجر، فهذا كله غير محتاج إلى حساب ولا كتاب."[8]

ومع ذلك نجد أن أوقات الصلاة الآن صار تحدد عن طريق الحسابات الفلكية دون أي تردد.

علماً بأن استخدام مسيرة الشمس في تحديد أوقات الصلوات لم تكن فقط أوامر الرسول وحده، بل كانت كذلك من أوامر جبريل فقد علَّمها النبيَّ وأخيره أن هذه هي مواقيت الأنبياء. كما يورد الترمذي في روايته:

"أَخْبَرَنِي نَافِعُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَمَّنِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَام عِنْدَ الْبَيْتِ مَرَّتَيْنِ فَصَلَّى الظُّهْرَ فِي الْأُولَى مِنْهُمَا حِينَ كَانَ الْفَيْءُ مِثْلَ الشِّرَاكِ ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ حِينَ كَانَ كُلُّ شَيْءٍ مِثْلَ ظِلِّهِ ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ حِينَ وَجَبَتْ الشَّمْسُ وَأَفْطَرَ الصَّائِمُ ثُمَّ صَلَّى الْعِشَاءَ حِينَ غَابَ الشَّفَقُ ثُمَّ صَلَّى الْفَجْرَ حِينَ بَرَقَ الْفَجْرُ وَحَرُمَ الطَّعَامُ عَلَى الصَّائِمِ وَصَلَّى الْمَرَّةَ الثَّانِيَةَ الظُّهْرَ حِينَ كَانَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ لِوَقْتِ الْعَصْرِ بِالْأَمْسِ ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ حِينَ كَانَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ لِوَقْتِهِ الْأَوَّلِ ثُمَّ صَلَّى الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ حِينَ ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ ثُمَّ صَلَّى الصُّبْحَ حِينَ أَسْفَرَتْ الْأَرْضُ ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيَّ جِبْرِيلُ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ هَذَا وَقْتُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِكَ وَالْوَقْتُ فِيمَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ

قَالَ أَبُو عِيسَى وَفِي الْبَاب عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَبُرَيْدَةَ وَأَبِي مُوسَى وَأَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ وَأَبِي سَعِيدٍ وَجَابِرٍ وَعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ وَالْبَرَاءِ وَأَنَسٍ."[9]

غير أن العلماء القدامى الذين رفضوا استخدام الحسابات الفلكية في تحديد أوقات الصلوات، رفضوها اعتماداً على فهمهم للأحاديث النبوية  التي تنص على ربط مواقيت الصلاة بمسيرة الشمس، ولم يفرقوا في ذلك بين الحسابات المتعلقة بالشمس وبين الحسابات المتعلقة بالقمر كما يزعم بعض العلماء المعاصرين. فبالنسبة إليهم فإن الحسابات الفلكية مرفوضة رفضاً باتاً لأنها تخالف في رأيهم ظاهر أحاديث النبي. كما يقول ابن عابدين مورداً ذلك عن ابن دقيق العيد:

"وَلَيْسَ فِي الْعَمَلِ بِالْبَيِّنَةِ مُخَالَفَةٌ لِصَلَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَجْهُ مَا قُلْنَاهُ أَنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَعْتَمِدْ الْحِسَابَ ، بَلْ أَلْغَاهُ بِالْكُلِّيَّةِ بِقَوْلِهِ { نَحْنُ أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسِبُ الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا } وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ : الْحِسَابُ لَا يَجُوزُ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ."[10]

إلا أن الفقهاء الذين ذهبوا إلى عدم جواز استخدام الحسابات الفلكية في تحديد أوقات الصلوات احتجوا على ذلك بأن الشارع جعل رؤية مسيرة الشمس سبباً لتحديد أوقات الصلوات، ولم يجعل الحساب سبباً لدخول الوقت،

ولذلك رفضوا استخدامه رفضاً باتاً كما رأينا آنفاً في قول ابن رجب وابن دقيق العيد. ولكن الذين جاؤوا بعدهم مثل القرافي وغيره اختلفوا مع القدامى في جعلهم رؤية مسيرة الشمس سبباً في تحديد أوقات الصلوات وحددوا تحقيق الوقت دون الرؤية شرطاً وسبباً بحتاً في تحديد أوقات الصلاة، فبالنسبة لهم إذا تم تحقيق الوقت بأي وسيلة من الوسائل مثل الحسابات والساعات فاستخدام هذه الوسائل جائز شرعاً.    

وعلى سبيل المثال نجد غالبية فقهاء المالكية قد رفضوها رفضاً شديداً، وحاربوا في ذلك أحد فقهاءهم ألا وهو الإمام القرافي لأنه ذهب مع استخدام الحسابات الفلكية في تحديد أوقات الصلاة.

يذكر القرافي:

"الْإِشْكَالُ الْأَوَّلُ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ وَذَلِكَ أَنَّهُ جَرَتْ عَادَةُ الْمُؤَذِّنِينَ وَأَرْبَابِ الْمَوَاقِيتِ بِتَيْسِيرِ دَرَجِ الْفَلَكِ فَإِذَا شَاهَدُوا الْمُتَوَسِّطَ مِنْ دَرَجِ الْفَلَكِ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ دَرَجِ الْفَلَكِ الَّذِي يَقْتَضِي أَنَّ دَرَجَةَ الشَّمْسِ قَرُبَتْ مِنْ الْأُفُقِ قُرْبًا يَقْتَضِي أَنَّ الْفَجْرَ طَلَعَ أَمَرُوا النَّاسَ بِالصَّلَاةِ والصَّوْمِ مَعَ أَنَّ الْأُفُقَ يَكُونُ صَاحِيًا لَا يَخْفَى فِيهِ طُلُوعُ الْفَجْرِ لَوْ طَلَعَ ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا يَجِدُ الْإِنْسَانُ لِلْفَجْرِ أَثَرًا أَلْبَتَّةَ ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا نَصَبَ سَبَبَ وُجُوبٍ لِلصَّلَاةِ ظُهُورَ الْفَجْرِ فَوْقَ الْأُفُقِ ، وَلَمْ يَظْهَرْ فَلَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ حِينَئِذٍ فَإِنَّهُ إيقَاعٌ لِلصَّلَاةِ قَبْلَ وَقْتِهَا وَبِدُونِ سَبَبِهَا ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي بَقِيَّةِ إثْبَاتِ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ ( فَإِنْ قُلْت ) هَذَا جُنُوحٌ مِنْك إلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الرُّؤْيَةِ ، وَأَنْتَ قَدْ فَرَّقْت بَيْنَ الْبَابَيْنِ ، وَمَيَّزْت بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ بِالرُّؤْيَةِ وَعَدَمِهَا ، وَقُلْت السَّبَبُ فِي الْأَهِلَّةِ الرُّؤْيَةُ وَفِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ تَحْقِيقُ الْوَقْتِ دُونَ رُؤْيَتِهِ فَحَيْثُ اشْتَرَطْت الرُّؤْيَةَ فَقَدْ أَبْطَلْت مَا ذَكَرْته مِنْ الْفَرْقِ ."[11]

يجيب القرافي عن ذلك بقوله:

"قُلْت سُؤَالٌ حَسَنٌ ( وَالْجَوَابُ عَنْهُ ) أَنِّي لَمْ أَشْتَرِطْ الرُّؤْيَةَ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ لَكِنِّي جَعَلَتْ عَدَمَ اطِّلَاعِ الْحِسِّ عَلَى عَدَمِ الْفَجْرِ دَلِيلًا عَلَى عَدَمِهِ وَأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ لَمْ يَتَحَقَّقْ ؛ لِأَنَّ الرُّؤْيَةَ هِيَ السَّبَبُ وَنَظِيرُهُ فِي الْأَهِلَّةِ لَوْ كَانَتْ السَّمَاءُ مُصْحِيَةً وَالْجَمْعُ ثير وَلَمْ يُرَ الْهِلَالَ جَعَلْت ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى عَدَمِ خُلُوصِ الْهِلَالِ مِنْ شُعَاعِ الشَّمْسِ . وَكَذَلِكَ لَوْ رَأَيْت الظِّلَّ عِنْدَ الزَّوَالِ مَائِلً لِجِهَةِ الْمَغْرِبِ ، وَلَمْ أَرَهُ مَائِلًا إلَى جِهَةِ الْمَشْرِقِ بَلْ مُتَوَسِّطًا بَيْنَ الْجِهَتَيْنِ جَعَلْت ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى عَدَمِ دُخُولِ الْوَقْتِ وَعَدَم السَّبَبِ فَفَرْقٌ بَيْنَ كَوْنِ الْحِسِّ سَبَبًا وَبَيْنَ كَوْنِهِ دَالًّا عَلَى عَدَمِ السَّبَبِ فَإِنِّي فِي الْفَجْرِ جَعَلْته دَلِيلًا عَلَى عَدَمِ السَّبَبِ لَا أَنِّي اشْتَرَطْت الرُّؤْيَةَ ، وَلِذَلِكَ أَنِّي لَمْ أَسْتَشْكِلْ ذَلِكَ إلَّا وَالسَّمَاءُ مُصْحِيَةٌ وَالْحِسُّ لَا يَجِدُ شَيْئَانِ مِنْ الْفَجْرِ ، أَمَّا لَوْ كَانَ حِسَابُهُمْ يَظْهَرُ مَعَهُ الْفَجْرُ مَعَ الصَّحْوِ طَالِعًا مِنْ الْأُفُقِ وَيَخْفَى مَعَ الْغَيْمِ لَمْ أَسْتَشْكِلْهُ ، وَقُلْت : إنَّمَا يَخْفَى لِأَجْلِ الْغَيْم لَا لِأَجْلِ عَدَمِهِ فِي نَفْسِهِ لَكِنْ لَمَّا رَأَيْت حِسَابَهُمْ فِي الصَّحْوِ لَا يَظْهَرُ مَعَهُ الْفَجْرُ عَلِمْت أَنَّ حِسَابَهُمْ يُقَارِنُ عَدَمَ السَّبَبِ فَإِنَّ الْحِسَّ كَمَا يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الْفَجْرِ يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى عَدَمِهِ بِاتِّسَاقِ الظُّلْمَةِ وَعَدَمِ الضِّيَاءِ ، فَهَذَا جَوَابُ هَذَا السُّؤَالِ لَا أَنِّي سَوَّيْت بَيْنَ الْأَهِلَّةِ وَأَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ".[12]

أدر عينك الآن في كل العالم الإسلامي وقل كم مسلماً يستخدم ظل العود ليعرف متى دخل وقت الصلاة.

يقول الشيخ محمد رشيد رضا "إِنَّ إِثْبَاتَ أَوَّلِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَأَوَّلِ شَهْرِ شَوَّالٍ هُوَ كَإِثْبَاتِ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ قَدْ نَاطَهَا الشَّارِعُ كُلَّهَا بِمَا يَسْهُلُ الْعِلْمُ بِهِ عَلَى الْبَدْوِ وَالْحَضَرِ...وَغَرَضُ الشَّارِعِ مِنْ ذَلِكَ الْعِلْمُ بِهَذِهِ الْأَوْقَاتِ لَا التَّعَبُّدُ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ وَلَا بِتَبَيُّنِ الْخَيْطِ الْأَبْيَضِ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ; أَيْ: انْفِصَالِ كُلٍّ مِنَ الْآخَرِبِرُؤْيَةِ ضَوْءِ الْفَجْرِ الْمُسْتَطِيرِ مِنْ جِهَةِ الْمَشْرِقِ ، وَلَا التَّعَبُّدُ بِرُؤْيَةِ ظِلِّ الزَّوَالِ وَقْتَ الظُّهْرِ ، وَصَيْرُورَةِ ظِلِّ الشَّيْءِ مِثْلَهُ وَقْتَ الْعَصْرِ ، وَلَا بِرُؤْيَةِ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَغِيبَةِ الشَّفَقِ لِوَقْتَيِ الْعِشَاءَيْنِ ، فَغَرَضُ الشَّارِعِ مِنْ مَوَاقِيتِ الْعِبَادَةِ مَعْرِفَتُهَا وَمَا ذَكَرَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ نَوْطِ إِثْبَاتِ الشَّهْرِ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ أَوْ إِكْمَالِ الْعِدَّةِ بِشَرْطِهِ قَدْ عَلَّلَهُ بِكَوْنِ الْأُمَّةِ فِي عَهْدِهِ كَانَتْ أُمِّيَّةً أَوْ مِنْ مَقَاصِدِ بِعْثَتِهِ إِخْرَاجُهَا مِنَ الْأُمِّيَّةِ لَا إِبْقَاؤُهَا فِيهَا."[13]

و يستمر الشيخ رشيد رضا بقوله " وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّنَا بَيْنَ أَمْرَيْنِ : إِمَّا أَنْ نَعْمَلَ بِالرُّؤْيَةِ فِي جَمِيعِ مَوَاقِيتِ الْعِبَادَاتِ أَخْذًا بِظَوَاهِرِ النُّصُوصِ وَحُسْبَانِهَا تَعَبُّدِيَّةً ، وَحِينَئِذٍ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُؤَذِّنٍ أَلَّا يُؤَذِّنَ حَتَّى يَرَى نُورَ الْفَجْرِ الصَّادِقِ مُسْتَطِيرًا مُنْتَشِرًا فِي الْأُفُقِ ، وَحَتَّى يَرَى الزَّوَالَ وَالْغُرُوبَ إِلَخْ ، وَإِمَّا أَنْ نَعْمَلَ بِالْحِسَابِ الْمَقْطُوعِ بِهِ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى مَقْصِدِ الشَّارِعِ ، وَهُوَ الْعِلْمُ الْقَطْعِيُّ بِالْمَوَاقِيتِ وَعَدَمِ الِاخْتِلَافِ فِيهَا ، وَحِينَئِذٍ يُمْكِنُ وَضْعُ تَقْوِيمٍ عَامٍّ تُبَيَّنُ فِيهِ الْأَوْقَاتُ الَّتِي يُرَى فِيهَا هِلَالُ كُلِّ شَهْرٍ فِي كُلِّ قُطْرٍ عِنْدَ الْمَانِعِ مِنَ الرُّؤْيَةِ وَتُوَزَّعُ فِي الْعَالَمِ ، فَإِذَا زَادُوا عَلَيْهَا اسْتِهْلَالَ جَمَاعَةٍ فِي كُلِّ مَكَانٍ فَإِنْ رَأَوْهُ كَانَ ذَلِكَ نُورًا عَلَى نُورٍ ، وَأَمَّا هَذَا الِاخْتِلَافُ وَتَرْكُ النُّصُوصِ فِي جَمِيعِ الْمَوَاقِيتِ - عَمَلًا بِالْحِسَابِ مَا عَدَا مَسْأَلَةَ الْهِلَالِ - فَلَا وَجْهَ وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ ، وَلَمْ يَقُلْ بِهِ إِمَامٌ مُجْتَهِدٌ بَلْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ)."[14]

 

 

-  أبو عبد الرحمان أحمد بن شعيب النسائي, سنن النسائي, المكتبة الشاملة الإليكترونية, ج.7, ص.426[1]

- مالك بن أنس, الموطأ, المكتبة الشاملة الإليكترونية, ج.2, ص.102[2]

[3] -  عبدالرحمان بن أحمد بن رجب الحنبلي، فتح الباري شرح صحيح البخاري، المكتبة الشاملة الإليكترونية، ج.3، ص.142,

www.shamela.ws/

 ابن رجب, فتح, ج.3, ص.141[4]

[5] - ابن رجب, فتح, ج.3, ص.141

- مالك, الموطأ, ج.1, ص.7[6]

- مسلم بن الحجاج, صحيح مسلم, المكتبة الشاملة, ج.3, ص.294[7]

- ابن رجب, فتح الباري, ج.3، ص.142[8]

- أبو عيسى الترمذي, سنن الترمذي, المكتبة الشاملة, ج.1, ص.255[9]

- محمد أمين بن عمر بن عابدين, رد المختار على الدرر المختار, المكتبة الشاملة, ج.7, ص.366 [10]

[11] -  أبو العباس أحمد بن إدريس عبد الرحمن شهباب الدين القرافي، أنوار البروق في أنواع الفروق، المكتبة الشاملة، ج.4، ص.142

www.shamela.ws/

[12] - القرافي، أيضا

- محمد رشيد بن علي رضا, تفسير القران الحكيم المشهور بتفسير المنار, القاهرة, الهيئة المصرية العامة للكتاب, 1990, ج.2, ص. 149-150[13]

- رشيد رضا, تفسير المنار, ج.2, ص.151[14]

Related Articles

Research Articles
Embarrassing Pictures of Jesus

Dr. Zulfiqar Ali Shah, Even though the central pivot of all New Testament writings is Jesus Christ and crucial information...

Research Articles
Netanyahu’s Unholy War

Gaza City, home to over 2.2 million residents, has become a ghostly emblem of devastation and violence

Research Articles
Raped and Discarded Princess

Tamar, the only daughter of King David was raped by her half-brother. King David was at a loss to protect or give her much-needed justice. This is a biblical tale of complex turns and twists and leaves many questions unanswered.

Research Articles
Dinah's Rape and Levi's Deception

The Bible is considered holy by many and X-rated by others. It is a mixture of facts and fiction, some of them quite sexually violent and promiscuous. The irony is that these hedonistic passages are presented as the word of God verbatim with serious moral implications.