تقديم أ.د عبد المجيد النجار

تقديم

تشير دراسات كثيرة في التاريخ الإنساني إلى أنّ المظاهر الأولى لتديّن

الإنسان تدلّ على أنه كان موحّدا في تصوّره لحقيقة الوجود وما يقع في

الكون من تدبير، وهو الأمر الذي يطابق ما جاء به القرآن الكريم من

أنّ الإنسان خلق على فطرة التوحيد كما في قوله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ . الروم 30 .

ومن مقتضيات هذا

التوحيد الفطري أنّ الإله الواحد كما أنّه متفرّد في ذاته فلا إله غيره فهو

متفرّد أيضا في وحدانيته تفرّدا مطلقا بكلّ صفات الكمال التي تجعله لا

يشبه شيئا من الكائنات.

غير أنّ الإنسان في خضمّ سيرورة الحياة وما يصيبه فيها من ابتلاءات

ينسى ما خلق عليه من فطرة التوحيد فصيبه في ذلك خلل ينتهي به إلى

تعدّد في تصوّر الألوهية أو إلى خلل في تصوّر صفات الكمال فينتهي به إلى

تصوّرات من تشبيه الإله الكامل بصفات الكائنات الكونية أو تجسيمه

في أوصاف محسوسة، فيأتي حينئذ الوحي من الله لتصحيح هذا الخلل

والعودة بالإنسان إلى فطرة التوحيد التي خلق عليها، وهكذا كلّما طرأ

على الإنسان خلل في تصوّر التوحيد جاء الوحي بالتصحيح في سلسلة

من الرسل يتلو بعضهم بعضاً كلما استفحل في الناس الخلل في تصوّر

الألوهية الموحّدة.

وليس التوحيد الذي هو فطرة في الإنسان مجرّد تصوّر في الذهن

يؤمن به مجرّد إيمان نظري، وإنما هو إيمان ينعكس على حياة الإنسان كلّها

الفكرية والنفسية، والفردية والجماعية، حتى ليصحّ القول إنّ التوحيد

في أبعاده المتعدّدة هو نظام كامل للحياة؛ ولذلك جاءت الأديان تحتفل

به أيما احتفال وتجعله المحور الأساسي في حياة الإنسان تصوّراً نظرياً

وسلوكاً عملياً.

وبالرغم من أنّ الأديان المتأخّرة التي جاء بها موسى وعيسى عليهما

السلام قد جعلت من التوحيد المطلق أساساً لتصحيح ما أصاب الإنسان

من خلل في التصوّر الديني، فإنّ أتباع هذه الديانات قد سقطوا هم أيضاً

في تحريف هذا التوحيد  فإذا هو تشبيه وتجسيم عند اليهود، وإذا هو شرك

وتعدّد عند النصارى مع ما يتبع ذلك من انحراف في سائر مظاهر الحياة؛

ولذلك جاء الإسلام حاسماً في إقامة الدين كله على التوحيد المطلق،

وجعله هذا التوحيد هو العنوان الأكبر في الدين الخاتم، وبنى على ذلك

كلّ تعاليمه النظرية والعملية، حتى أصبح هو دين التوحيد بإطلاق. وإذا

كانت بعض التعابير القرآنية قد يفهم من ظواهرها ما يقترب من التشبيه

فإنّ ذلك ليس إلا الاستعمالات المجازية التي انبنت عليها اللغة العربية،

وإلا فإنّ التوحيد المطلق هو القطعي في البيان القرآني، وهو ما يغفل عنه

أو يتغافل بعض المغرضين في قراءة القرآن الكريم. .

وإذ قد ظهرت بين الحين والآخر دعوات إلى التقارب بين الأديان

الإبراهيمية: اليهودية والمسيحية والإسلام باعتبار أنها أديان تنحدر

مجتمعة من النبي إبراهيم الخليل عليه السلام، فإنّ هذه الدعوات يكتنفها

كثير من اللبس، إذ هي تجمع بين دين انحرف إلى التشبيه والتجسيم،

ودين انحرف إلى الشرك والتعدّد، ودين بقي على خاص التوحيد، فكيف

تجتمع هذه الأديان إذن في خطّة من التقارب وربما إلى التوحّد كما يريد

بعض الدعاة إلى هذه الخطّة؟

في هذا الإطار يمكن أن نضع هذا البحث الموسوم ب "الأوصاف

التجسيدية للخالق في التراث اليهودي والمسيحي والإسلامي: تمثيل ما

لا يمكن تمثيله"، إذ جاء فيه وصف دقيق لما عليه هذه الديانات من تصوّر

للألوهية يبرز بوضوح ما بينها من فروق شاسعة في هذا التصوّر، حيث

يقوم التصوّر اليهودي للألوهية على التشبيه والتجسيم، ويقوم التصوّر

المسيحي على ال كّرش والتعدّد، ويقوم التصوّر الإسلامي على التوحيد

المطلق، وكأننا بالباحث ينتهي ضمنا إلى أنّ الجمع بين هذه الديانات أمر

غير ممكن لما بينها من التناقض في جوهر معتقداتها، وإذا كان من تلاق بين

هذه الأديان فمجاله لا يتعدّى التعاون في نطاق القيم الإنسانية الأخلاقية

إلى ما فيه علاقة بين البناء العقدي المتعلّق بالتوحيد خاصّة.

قد تكون هذه الرسالة هي إحدى الرسائل المهمّة التي هدف هذا

البحث إلى تبليغها، بما توصّل إليه من بيان دقيق وعميق للفروق بين هذه

الديانات في شأن عقيدة التوحيد التي بقيت صافية في الإسلام، وأصابها

ما أصابها في اليهودية من تشبيه وتجسيم، وما أصابها في المسيحية من

شرك وتعدّد.

والله ولي التوفيق

أ.د عبد المجيد النجار

أستاذ العقيدة في جامعة الزيتونة

وعضو المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث

Related Articles

Research Articles
Embarrassing Pictures of Jesus

Dr. Zulfiqar Ali Shah, Even though the central pivot of all New Testament writings is Jesus Christ and crucial information...

Research Articles
Netanyahu’s Unholy War

Gaza City, home to over 2.2 million residents, has become a ghostly emblem of devastation and violence

Research Articles
Raped and Discarded Princess

Tamar, the only daughter of King David was raped by her half-brother. King David was at a loss to protect or give her much-needed justice. This is a biblical tale of complex turns and twists and leaves many questions unanswered.

Research Articles
Dinah's Rape and Levi's Deception

The Bible is considered holy by many and X-rated by others. It is a mixture of facts and fiction, some of them quite sexually violent and promiscuous. The irony is that these hedonistic passages are presented as the word of God verbatim with serious moral implications.