فكرة التجسد و التعالى

التجسُّد

إن التجسُّد هو شكل من أشكال تشبيه الله بالبشر، فمن خلاله

يمكن أن يُوصف الله من خلال تصورات ومقولات وأشكال بشرية من

دون أن يُمَثَّلَ الإنسان "على صورتنا كشبهنا". ولكن مصطلح التجسُّد

يشير إلى تمثيل الإنسان على أنه مخلوق على صورة الله خاصةً. ويُعرِّف

يعقوب نويسنر التجسُّد بأنه "تمثيل الله جسديّاً، على أنه متحيز، ويتصف

بطبيعة البشر نفسها من حيث العاطفة والانفعال والفضيلة، ويشترك

مع البشر في طرق ووسائل أفعالهم."))1) والنظرة المسيحية للمسيح على

أنه إله كامل وإنسان كامل في الوقت نفسه ثُمتِّل قمَّة التجسُّد، ومن هنا

التجسيد والتشبيه بالبشر، ومع أن العديد من علماء اللاهوت المسيحيين

يقولون بعكس ذلك، فإذا كان الله يستطيع أن يتجسد تجسُّداً كاملاً في

شخص إنسان محدود في الزمان والمكان ويشعر بالقيود البشرية لدرجة

أنه قد يموت موتاً فظيعاً، فإننا نكون في هذه الحالة قد وصلنا إلى قمة ما

يمكن أن يصل إليه التجسيد

إن فكرة الله الذي يعاني من الموت أسهمت، فيما يبدو، في ظهور

النظرية اللاهوتية عن موت الله، وأكدت على عدم ملاءمة الله للثقافة

الحديثة والمجتمع الحديث. والحجة هنا واضحة، فالإله الذي يتخلى

عن المسيح وهو على الصليب إنما هو إله لا يستطيع الإنسان الحديث

أن يثق فيه. فما الضمان لدى الإنسان الحديث لكي لا يتخلى هذا الإله

نفسه عنه عندما يكون في أشد الحاجة إليه؟ والإله الذي لا يستطيع أن

يغفر ذنباً بسيطاً مثل أكل تفاحة محرَّمَة ويعذِّب لقرونٍ مليارات الرجال

والنساء والأطفال في النار إلى أن تتم المغفرة من خلال السفك الوحشي

لدم إنسان فاضل وبريء، وهو المسيح عليه السلام، إنما هو إله تراود

الإنسان المعاصر بشأنه شكوك جوهرية، خاصة فيما يتعلق بعدله ورحمته

ومحبته وطبيعته ومصداقيته. فالإله الذي لا يستطيع أن يقضي على الرذيلة

أو حتى يكبحها بالرغم من الفداء من خلال الصلب هو إله لم يعد مناسباً

للثقافة الحديثة المتمثلة في النفعية والنسبية والوضعية المنطقية. فمثل هذا

الإله ليس له معنى وهو شديد الغموض والتناقض والتشبّه بالبشر.

بمعنى أن موت الله في الذهن كان نتيجة حتمية بالفعل عندما حاول

الرومان قتل المسيح بالفعل، والمسيح كان يتم النظر إليه على أنه الله وقد

تدرع بجسدٍ. باختصار، تكمن المفارقة في أن أنسنة الله أفضتْ إلى تأليه

الإنسان. وبعد أن نبذ الإنسان أفكاره عن الله، كان عليه أن يبحث عن

حلول لمشكلاته من خلال معرفته وقوانينه من دون النظر إلى المجالات

المتعالية، طلباً للمساعدة أو الرشاد. ولا بدّ من التخلص من التشوُّش

المعرفي القديم المتمثل في التضرع لله وقت الحاجة، لصالح حلول يقدمها

العلم والتكنولوجيا

التّعالي

إن التعالي مصطلح يستخدم في معظم الحالات للدلالة على الإرشاد

المتواصل النابع من العناية الإلهية الذي يقدمه الله للبشر، ويدل، كذلك،

على استقلال الله عن هذا العالم المادي، من خلال التأكيد على انفصاله

سبحانه وتعالى عن هذه الدنيا وتساميه عليها. والتعالي هو أهم سمة

من سمات الله؛ إذ إن غيبية الألوهية وما وراء الطبيعة يقومان على هذا

التعالي. يقع الله وراء هذا المجال النفعي المحدود في الزمان وفي المكان

حيث إنه خالق هذا الكون المحدود بالزمان والمكان. كما أن مصطلح

التعالي يشير إلى أن الله نفسه والأفكار حول وجوده وحقيقته المطلقة

وقوته وسلطته، كل هذا لا يدل على تصورات من وضع البشر، ومن

ثمّ لا يمكن الاستغناء عنها باعتبارها أوصافاً فارغة من المعنى، كما

يتصورها التجريبيون، بل إن الله ووحيه هما المصدرُ والسببُ الأساسيان

للمعنى والمغزى في هذا العا .َمل

transcendence يدل اشتقاق مصطلح التعالي في اللغة الإنجليزية

الذي يعني "أنا أتسلَّقُ". scando على أن أصله مشتق من الجذر اللاتيني

نحصل على ،trans و de و as وعندما نضيف لهذا الجذر حروف جر مثل

ينزل، ( descend يصعد، يعتلي، يرتفع، يطلع(، و ( ascend الأفعال

يتجاوز، يسمو، يتفوق(. ومن ثمّ ( transcend يهبط، ينحدر، ينحط(، و

يعني حرفيّاً: "شيء تسلَّق خارجاً من شيء ما" أو transcend فإن الفعل

شيء "صعد أعلى" شيء آخر أو "ذهب وراء" شيء آخر. وهذا التعريف

يف ضَرتُِ وجود اختلاف بين الشيء الذي يقوم بالتجاوز والشيء الذي يتم

تجاوزه، كما أنه يفترض ورود علاقة أو وثاقة بينهما. وبوصف مصطلح

التعالي استعارةً، فقد تم استخدامه للتعبير عن مجموعة من المعاني المتنوعة

وإن كانت مترابطة، ولذلك سيتحدد المعنى الدقيق للمصطلح في أي

نص من خلال السياق الذي يتم استعماله فيه. وفي هذا الكتاب، سيتم

استعمال المصطلح للدلالة على الله ووحدانيته وغيبيته، وكذلك للدلالة

على طريقته الوحدانية في علاقته بالعا ،َمل مع استبعاد مفهوم التجسيد. ولا

يعني كون الله يتعالى على العالم أنه خارجُ العالم،ِ ولكن يعني أنه "يقف في

الأعلى فوق كل الكائنات الفانية" وهو "ليس متطابقاً مع عالم الكائنات

الفانية وقدرته لا يستنفدها عا الكائناتِ الفانيةِ". فهو لا يكون عدماً

أبداً مثل الكائنات الفانية، بل "يتجاوز البنِيَْةَ" والضرورات التي لا سبيل

للتغلب عليها، بالمعنيين الزماني والمكاني، وهو حرٌّ بالنسبة إلى كل هذه

الضرورات

التعالي: تأويل فلسفي

يختلف المفهوم الديني لمصطلح "التعالي"، كما ناقشناه من قبل، عن

تأويل الفلاسفة له؛ إذ تتباين فكرتهم عن التعالي تبايناً حاداً مع مفهوم

فلقد شطحوا في محاولاتهم لأن .divine immanence الكُمُون الإلهي

يفرضوا وحدة الله ووحدانيته وتنقية وجوده من كل السمات والصفات

البشرية لدرجة أنهم قطعوا علاقته بهذا العا الذي يقع في نطاق إدراكنا،

وفي بعض الحالات ألغوا سلطته على هذا العالم. وهذا التصور المتطرف

للتعالي – الذي يمتد منذ عهد الفيثاغورثيين والأفلاطونيين، مروراً

بفيلون والأفلاطونيين المحدثين، وصولا إلى عدد كبير من الفلاسفة

وعلماء اللاهوت الذين ينتمون إلى المدارس الثلاث – يقرن الله بمصدر

الحقيقة الإلهية التي تنبعث منها كل الحقائق الأخرى، شاءتْ ذلك أم

أبتْ، كما يصدر النور عن الشمس

الكُمُون

على وجود الله في هذا العا ،َمل immanence يدل مصطلح الكمون

وهناك اعتقاد بأن هذا المصطلح نقيض مصطلح "التعالي". ومصطلح

الذي manere الكمون، في اللغة الإنجليزية، مشتق من الجذر اللاتيني

لهذا الجذر اللاتيني تجعله in يعني "يظل" أو "يبقى". وإضافة حرف الجر

يعني "يظل في" أو "يبقى داخل". ومن الجدير بالملاحظة هنا أن ما يظل

في شيء ما أو يبقى داخل شيء ما يمكن تمييزه عن الشيء الذي يظل

فيه، وإلا صار أحدهما جزءاً من الآخر. وعندما نأخذ هذه الحقيقة في

اعتبارنا، يمكننا القول بأن مصطلح "الكمون" ليس على طرف النقيض

من مصطلح "التعالي". بمعنى أن تَعَا اللهِ يفترض علاقةَ الله بالعا .َمل ففي

تعالي الله عن العالم، يتنزه عما سواه. ومن ثمّ، يرتبط الله بعالم الحواس

بصفته أصلَ هذا العالمِ والمَصْدرَ الوحيدَ لخلقِه ووجودِه، باعتباره

الخالقَ والرزَّاقَ، فيظلّ داخل عالم المادة ويكون كامناً في كل جانب من

جوانب هذا العالم من خلال سرمدية قوته ومعرفته وسلطته ورعايته

ومحبته والعديدِ من السمات والصفات المطلَقَة واللامتناهية الأخرى،

ولكنه، على المستوى الأنطولوجي )الوجودي(، في تمام الغيرية بالنسبة

لهذا العالم. ولذلك، فعندما نقارن بين التعالي أو تجاوز الطبيعة من جهة

والكمون أو حضور الله المقيم داخل العالم من جهة أخرى، فإننا نصف،

بلغة بشرية ناقصة، جانبين مختلفين من جوانب الكائن الواحد نفسه.

ومن هنا لا يُعدُّ التعالي والكمون بديلين متعارضين، وإنما هما متلازمان،

فكلاهما يكمّل الآخرَ؛ إذ إن كلاً منهما يحتوي بعض عناصر الآخر. هذا

الفهم التوحيدي للتعالي هو لبنةٌ أساسيةٌ في الأديان الساميَّة )اليهودية

والمسيحية والإسلام(. والإيمان بمثل هذا الإله المتعالي يتوغَّل في نفوس

المؤمنين ويشكِّل مجمل جوانب حياتهم. وهذا الإيمان ليس من الأشياء

التي يمكنهم الاحتفاظ بها لأنفسهم، فيكمن وراءها نوع من الإلزام

والإلحاح. فيبدو أن كل أعمال المؤمنين الحقيقيين يشكّلها ويستلزمها هذا

النوع الخاص من الإيمان الذي يؤمنون به ويتعلق بالمتعالي، فالله بالنسبة

لهؤلاء المؤمنين هو المصدر الوحيد لوجودهم نفسه، هو الكائن الواحد

الأحد الكامل الذي يُعدُّ مصدرَ الكون مع أنه متميز عن هذا الكون،

ويواصل إعالته لهذا الكون ويرشده من خلال العناية الإلهية.

وتتفاوت المناهج التي يتبناها أتباع هذه الأديان الساميَّة فيما يتعلق

بالأوصاف التشبيهية والتجسيدية لهذا الإله المتعالي تفاوتا نسبيّاً.

فالكتاب المقدس اليهودي )الكتاب المقدس العبري، العهد القديم(

زاخر بالأوصاف والتعبيرات التي تشبّه الله بالإنسان، مع أن الفلاسفة

وعلماء اللاهوت اليهود في القرون الوسطى مثل سعاديا بن يوسف

،)1135- 882 ( وموسى بن ميمون ) 1204 - )سعاديا جاؤون( ) 942

882 ( وموسى بن ميمون - سعاديا بن يوسف )سعاديا جاؤون( ) 942

1135-1204 (، وكذلك العديد من العلماء المُحدثين في عصرنا الحالي، (

حاولوا أن يزيلوا أو على الأقل أن يقلصوا هذه الأشكال التشبيهية

من التوراة من خلال العديد من التأويلات. وعلى الجانب الآخر، فإن

سعة انتشار النزعة التشبيهية لله في التوراة يجعل مثل هذه المحاولات

الفكرية بلا جدوى حقيقية. وأمّا بالنسبة للمسيحية، فإن عقيدة شخص

المسيح و"التجسُّد" هي تشبيهية أيضاً. فعلى الرغم من تأكيد المسيحية

مراراً وتكراراً على تعالي الله وتفرُّده، فإن وجود عقائد مثل "التجسُّد"

والاستخدام المتكرر لتعبيرات من قبيل الآب والابن والرب في شكل

بشر، والله على الأرض، وأم الرب، ووجه الله ويديه، كل هذا يترك

مُسحة من النزعة التجسيدية في العقل البشري. وأما الإسلام، فهو يؤكد

على تعالي الله، والقرآن يُبعِدُ الله تماماً من أية درجة من درجات النزعة

التجسيدية ومن أي تشبيه جسدي له بالبشر.

 

 

 

Related Articles

Research Articles
Embarrassing Pictures of Jesus

Dr. Zulfiqar Ali Shah, Even though the central pivot of all New Testament writings is Jesus Christ and crucial information...

Research Articles
Netanyahu’s Unholy War

Gaza City, home to over 2.2 million residents, has become a ghostly emblem of devastation and violence

Research Articles
Raped and Discarded Princess

Tamar, the only daughter of King David was raped by her half-brother. King David was at a loss to protect or give her much-needed justice. This is a biblical tale of complex turns and twists and leaves many questions unanswered.

Research Articles
Dinah's Rape and Levi's Deception

The Bible is considered holy by many and X-rated by others. It is a mixture of facts and fiction, some of them quite sexually violent and promiscuous. The irony is that these hedonistic passages are presented as the word of God verbatim with serious moral implications.