مقدمة الدكتور طه جابر العلواني لكتاب الحسابات الفلكية وإثبات شهر رمضان رؤية فقهية

بسم الله الرحمن الرحيم

"مقدمة كتاب الحسابات الفلكية وإثبات شهر رمضان رؤية فقهية"

الحمد لله رب العالمين نستغفره ونستعينه ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ونصلي ونسلم على سيدنا محمد رسول الله وعلى آله وصحبه ومن تبعه واهتدى بهديه إلى يوم لقاه ثم أما بعد يسرني أن أقدم للقراء الكرام هذا الكتاب الذي أعده الأستاذ الدكتور ذو الفقار علي شاه "المدير التنفيذي للمجلس الفقهي لأمريكا الشمالية" وهو رجل من طلبة العلم الشرعي ومن الباحثين المتتبعين في المجالات الفقهية ولا نزكي على الله أحدًا.

هناك جدلية ثابتة بين الفقه والثقافة فالفقه سواء أكان على مستوى كتاب يكتب أو فتوى يفتى بها أو رأي يطرح أو مذهب يقرر فإنها تحدث تفاعلاً يجعل القضية المطروحة بعد مرحلة من الزمن جزءًا من ثقافة الأمة التي انتشر فيها ذلك المذهب أو جرى فيها تبني تلك الفتوى أو القول أو الرأي ذلك لأن العلماء حينما يتحدثون في الفقه إنما يحاولون الإجابة عن أسئلة البيئة أو معالجة مشكلاتها أو العمل على مقاومة بدع أو ظواهر انحرافية تبرز من خلال حركة المجتمع وممارسات الناس وقد نجد في الثقافة أمورًا كثيرة ينسى الناس أصولها أو جذورها الفقهية ويعبرون عنها بمصطلحات ثقافية أو عرفية فقد ينسى الناس الموقف الفقهي الذي قيل قبل قرن أو قرنين أو ثلاثة أو أكثر ولا يربطون بينه وبين الموقف الثقافي فالثقافة قد تستهجن أو تستنكره وتعبر عنه بأنه عيب أو مخجل أو عمل جيد أو عرف أو عادة حسنة وهذه التعابير الثقافية لو تتبعناها بالبحث والتحليل وأرجعناها إلى أصولها ولاحظنا حركتها ومسيرتها لوجدنا أصولها فقهية بمستوى من المستويات والأمثلة على ذلك كثيرة.

وأحيانًا تقوم هذه الثقافة بطرح أسئلة وتطالب الفقيه بالإجابة عنها ولذلك آثرت التعبير بالجدلية بمعنى التفاعل فكأن هناك مدخلات يقدمها الفقه لتكون مخرجات ثقافية ثم أسئلة تطرحها الثقافة على الفقه مجددًا ليجيب عنها وهكذا.

ولعل من أبرز الأمثلة على ذلك الجدل والتفاعل بين الفقه والثقافة قضية الحسابات الفلكية وإثبات بدايات الشهور القمرية.

فإن أمتنا المسلمة باتفاق الكاتبين في تاريخ العلوم كانت مؤسسة ومنشأة لعلم الفلك ودعاوى أن علم الفلك قد أنشأه الأغريق دعاوى لم يقم عليها دليل لكن الدليل قام على أن المسلمين أنشأوا في وقت مبكر من تاريخ حضارتهم علم الفلك وبنوه على تلك المنطلقات الأساسية التي جاء القرآن الكريم بها فإن القرآن الكريم قد أعاد تنظيم الزمن بعد أن عبثت به الأهواء وأفسدت خلاله الآراء الفقيرة ومع بعثة رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم- أعاد القرآن الكريم بناء الوعي بالزمن ودوره الأفلاك ونهى عن أي تلاعب فيه فقال –جل شأنه: [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ {36} إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ] (التوبة:36-37)، فهاتان الآيتان الكريمتان إضافة إلى آيات أخرى بينت لنا المواقيت مثل آية [يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] (البقرة:189) وأمر البارئ سبحانه بصيام شهر رمضان [يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] (البقرة:183)، وأمرنا بإتمام الحج والعمرة لله وجعل الحج في أشهر معلومات وربط الأمر بالذكر [وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ] (البقرة:203) وبين لنا حكم التأجل وحكم التأخير بيومين وحدد الأشهر الحرم وربط فيها قضايا المعاهدات والاتفاقات وهناك أحكام كثيرة مثل الزكاة [وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ] )(الأنعام:141) فلما رأى علماء الأمة أن عبادات الأمة ومعاملاتها وعلاقاتها وحربها وسلمها كل ذلك يتصل اتصالاً لا انفصام له بمسألة الزمن وحساب الأشهر والأعوام والأيام ودورات الشمس والقمر أسسوا علم الفلك لأنه من العلوم التي لا يتم الواجب المطلق إلا به فكان واجبًا لا يقبل أن تخلو منه برامج التعليم الإسلامي في مكان يدرس في كبريات دور العلم والمعرفة والحكمة في بغداد والقاهرة والشام والهند ثم الأندلس وقد ابتكر علماء المسلمين أدوات كثيرة من الاسطرلاب والساعة والمناظير وغير ذلك في عصور تقدمهم وحينما كنت حضارتهم هي الحضارة السائدة وقد كان العرب خاصة أهل المدينة منهم قبل النبي –صلى الله عليه وآله وسلم- يستشيرون يهود في معرفة بعض الظواهر ذات العلاقة بدورات الهلال والشمس ويخبرهم يهود بما لديهم عن ذلك وحين هاجر رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم- إلى المدينة المنورة وجد كثيرًا من الأنصار يعتمدون على حسابات اليهود في الأمور التي تحتاج إلى حساب وكان اليهود بعد أن دخل الإسلام المدينة يحاولون أن يوجدوا بين المسلمين الاضطراب والفرقة والاحساس بأنهم أهل الكتاب السابق الذين يحتلون موقع المعلم والمربي على الدوام فسأل بعض الصحابة النبي –صلى الله عليه وآله وسلم- عن الأهلة لما تبدأ صغيرة ثم تكبر ثم تصغر وهكذا.

وهذا السؤال طرحه اليهود على بعض المسلمين ليوجهوه إلى رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم- من قبيل الاختبار فرد الله عليهم بتلك الآية الكريمة التي تبين الحكمة من خلق الهلال وهي ظاهرة متيقنة إذ لو أجابهم جوابًا فلكيًا لما أمكن أن يفهموا المراد وبذلك يفتن البعض ولكن الله تبارك وتعالى قد ضرب المسلمين وعلمهم الأيام والأوقات والشمس ضياءًا والقمر نورًا وعلل ذلك بمعرفة السنين والحساب [وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلا {12} وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا] (الإسراء:13) وتحدث عن التقدير بالمنازل والمشارق والمغارب مما بنى قاعدة متينة للفكر الفلكي بنى عليها المسلمون ذلك العلم وبين رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم- للناس أنهم ليسوا بحاجة إلى التكلف لا في معرفة وقت صيامهم ولا فطرهم ولا صلواتهم فأية وسيلة متاحة وأي سبب يمكن معرفته كان لتصحيح العبادة إذ أن الأسباب أحكام وضعية لا يستطيع المكلف أن يتدخل في إيجادها أو عدمه لأنها جعلها الله تبارك وتعالى علامة على الحكم التكليفي ليس إلا ولذلك ما عرف التعبد بالأحكام الوضعية من الأسباب والشروط والموانع بل أنيط ذلك كله بالأحكام التكليفية.

إن الاختلاف السياسي كان له أثر بالغ في مواقف الفقهاء في تقرير واختيار بعض المذاهب المتعلقة باختلاف المطالع واشتراط إفتاء الإمام بدخول الشهر أو عدم اشترطه وتلك أمور عارضة فرضتها عوامل عديدة لعل أبرزها الاختلافات السياسية والمذهبية وهو عامل لا يمكن إنكاره في عصرنا هذا فهو مشاهد معروف.

ولقد حاولت منذ توليت رئاسة المجلس الفقهي لأمريكا الشمالية إلى أن قدمت استقالتي إقناع إخواني وزملائي في المجلس عبر تلك السنوات الطوال بالأخذ بمبدأ الحساب الفلكي في بلد أصبحت سفنه الفضائية تتخذ لها محطات على القمر بالعلم وبالحسابات الدقيقة وتتخذ مدارات حول كواكب أخرى وأنه آن للمسلمين في أمريكا خاصة أن يستروا تلك العورة "عورة عدم الثقة بالعلم أو التشكيك فيه" مع قطعيته وأن يمسكوا عن الجدل في هذا الأمر وحالت دون ذلك عوائق ذلك لأن كثيرًا من إخواننا الفلكيين قد حولوا أنفسهم إلى فقهاء كما أن كثيرًا من الفقهاء حولوا أنفسهم إلى علماء فلك فاختلطت الأوراق وظل الأمر موقوفًا حتى شرح الله صدور الأخوة مؤخرًا للأخذ بهذا الموقف وكم أتمنى أن يصدر "المعهد" و"إسنا" تقويمًا يظهر بدايات الشهور القمرية والسنين الهجرية إلى (1000) سنة قادمة لعلهم يريحون الناس ويستريحون ولعل مادة الجدل في هذا الأمر تنقطع وتتوقف وهي مادة شغلت المسلمين في أمريكا حتى ساغ لأحد الظرفاء أن يقول صادقًا إن أهم مشاكل المسلمين في أمريكا تنحصر "بالحلال والهلال" وقد عقد المعهد العالمي للفكر الإسلامي عدة ندوات لتأسيس ذلك الكاليندر ولم يكن يسمع له -آنذاك- فلعل هذه الدراسة مضافًا إليها الجهود السابقة تضع الأمور في نصابها وتنهي ذلك الجدل العقيم حول موضوع الهلال ولعل دراسة أخرى مماثلة يصدرها د. ذو الفقار أو غيره حول الحلال لعل ذلك يغير من أولويات المسلمين في الولايات المتحدة ويجعلهم أكثر اهتمامًا بمشكلاتهم الحقيقية النابعة عن السؤال المشروع حول مستقبل الوجود الإسلامي وجهود التعريف بالإسلام ولفت أنظار الأمريكان إلى ما في الإسلام من حلول لكثير من المشكلات الاجتماعية.

شكرًا للشيخ ذو الفقار وللمعهد العالمي للفكر الإسلامي سائلين العلي القدير أن يوفق المسلمين إلى ما فيه الخير والسداد إنه سميع مجيب.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

أ.د. طه جابر العلواني

رئيس جامعة قرطبة

Related Articles

Research Articles
Embarrassing Pictures of Jesus

Dr. Zulfiqar Ali Shah, Even though the central pivot of all New Testament writings is Jesus Christ and crucial information...

Research Articles
Netanyahu’s Unholy War

Gaza City, home to over 2.2 million residents, has become a ghostly emblem of devastation and violence

Research Articles
Raped and Discarded Princess

Tamar, the only daughter of King David was raped by her half-brother. King David was at a loss to protect or give her much-needed justice. This is a biblical tale of complex turns and twists and leaves many questions unanswered.

Research Articles
Dinah's Rape and Levi's Deception

The Bible is considered holy by many and X-rated by others. It is a mixture of facts and fiction, some of them quite sexually violent and promiscuous. The irony is that these hedonistic passages are presented as the word of God verbatim with serious moral implications.