مناقشة الأدلة من السنة

مناقشة الأدلة من السنة

أولاً إن الأحاديث الشريفة قد طالبت بوضوح باستخدام الرؤية البصرية للهلال الجديد على أنها وسيلة لتحري الدقة، وليست شرطاً لعبادة الصوم بذاتها. صحيح أن الرسول قد أمر بالرؤية البصرية، ولكنها كانت الوسيلة الوحيدة الصحيحة المتوفرة في تلك الفترة للتأكد من ولادة القمر الجديد، فالرؤية هي علامة على بدء هلال جديد. وهذا الذي قاله النبي "نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب ". الشهر يحتوي أحياناً على تسعة وعشرين يوماً، وأحياناً على ثلاثين يوماً. والعبادة مرتبطة بالوقت، والوقت في الإسلام مرتبط بالقمر وليس مرتبطاً بالشمس كما نعلم، فالتقويم الإسلامي هو تقويم قمري وليس تقويماً شمسياً، والشريعة لا تريد منا أن نصوم رمضان قبل أن يبدأ الشهر، كما أن الإسلام لا يريدنا أن نضيع يوماً من رمضان بالاحتفال بالعيد في اليوم الأخير منه. لهذا السبب قال لنا ألا نبدأ صيام رمضان يوماً أو يومين قبل الوقت، ولا نتوقف عن الصيام يوماً أو يومين قبل الوقت. كذلك يريدنا أن نبدأ صيام رمضان ونحن على تثبّت من الشهر الجديد وننهيه كذلك على تثبّت. والرؤية البصرية كانت الوسيلة الصحيحة الوحيدة المتاحة للأمة في السابق للتثبّت من بداية ونهاية الشهر، لذا منع النبي إستخدام الحسابات الرياضية التى بها تغير التقويم القمري إلى التقويم الشمسي، وأرجع النبي الوقت إلى أصله بقوله "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته".

 لهذا السبب أكد الرسول على رؤية الهلال الجديد وليس لأن الرؤية بحد ذاتها شرطاً في الصوم، أو أنها عبادة بنفسها، بل لأنها وسيلة للتأكد من ولادة القمر الجديد، أي لمعرفة الفرض في العبادة، وإذا كان التثبت من فرض العبادة ممكن بوسيلة أكثر دقة وصحة فإن استبدال الرؤية البصرية بها يحقق لنا الدقة، ولا يكون خرقاً أو معارضة للأوامر النبوية، أو مخالفة للشريعة، بل تكملة وتأدية لها.

ثانياً: إذا كانت الرؤية البصرية هي فرض بحد ذاتها، أو مطلوبة بنفسها ولا يكون تحديد بداية الشهر إلا بها فكان يجب أن تتبع حتى في اليوم الثلاثين من شعبان، إلاّ أنّ أحداً لا يخرج في الثلاثين من شعبان أو الثلاثين من رمضان لرؤية الهلال، ولا يوجد أي فقيه ذهب هذا المذهب، لأن الرؤية مطلوبة لتحري الدقة وليس للرؤية بحد ذاتها. فما دامت الدقة والصحة مضمونة بتكملة ثلاثين يوماً (حيث أن الشهر القمري في الإسلام لا يمكن أن يتجاوز هذا الحد) فإن الرؤية لم تعد بذات بال، وليس لها أهمية في معرفة بداية الشهر، حيث أن الجميع يعلم أن القمر الجديد لابد وأنه قد ولد، وأنه في الأفق مع تكملة ثلاثين يوماً من شعبان، ولا أحد يفكر أو يحاول أساساً رؤية الهلال بالعين المجردة. لذا فإننا نعود لقولنا بأنّ الرؤية ليست سبباً شرعياً لوجوب صيام رمضان، ولا مطلوبة بنفسها، وإنما هي وسيلة لتحري الدقة في تعيين وجود الهلال الجديد في الأفق.

فالسبب الشرعي كما يعرّفه عبد الكريم الزيدان هو “ما جعله الشارع معرفاً لحكم شرعي، بحيث يوجد هذا الحكم عند وجوده و ينعدم عند عدمه"[1]

فالله قد شرح لنا أن سبب الصيام هو دخول الشهر " فمن شهد منكم الشهر فليصمه"، حتى الذين ذهبوا إلى أن رؤية الهلال هي السبب الشرعي لوجوب صيام رمضان، قالوا بأن السبب الأصلي لصيام رمضان هو دخول شهر رمضان، وأن الرؤية هي الوسيلة لمعرفة هذا السبب كما يقول النووي : “ولا يجب صوم رمضان إلا بدخوله ويعلم دخوله برؤية"[2] فلو كانت الرؤية هي السبب فإن السبب لا يرتفع أبداً كما يقول الشاطبي: "ما أثبت سبباً، فهو سبب أبداً لا يرتفع..."[3] ولو كانت الرؤية هي فعلاً السبب الشرعي لوجوب الصيام، لكانت سبباً في التاسع والعشرين من شعبان، وسبباً في الثلاثين منه كذلك. لكننا نعلم أنّه إذا لم يُرَ الهلال في التاسع والعشرين من شعبان فإن أحداً لا يفرض الخروج في الثلاثين من الشهر لرؤيه. مما يعني أن الدقة في دخول الوقت هي السبب، لذلك إذا ما رؤي الهلال في التاسع والعشرين فإنه يحصل اليقين أنه سيكون في الأفق في الثلاثين من الشهر، فلا حاجة لتحريه في الثلاثين إلا لمن استحب أن يتبع السنة؛ فالهلال مجرد علامة على دخول الوقت، وليس هدفاً للعبادة، كما يقول رشيد رضا بأن الغاية من الرؤية هي: "العلم بهذه الأوقات، وليس التعبّد برؤية الهلال... وما ذكره صلى الله عليه وسلم من نوط إثبات الشهر برؤية الهلال أو اكمال العدّة بشرطه، قد عللّه بكون الأمّة في عهده كانت أميّة، ومن مقاصد بعثته إخراجها من الأميّة لا إبقاؤها فيها..."[4] 

كما أن رسول الله قد نهى عن صيام اليوم الذي يسبق شهر رمضان وهو يوم الشك،  فقد صحّ عن النبي قوله: "عَنْ عَمَّارٍ مَنْ صَامَ يَوْمَ الشَّكِّ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".[5]  كذلك فقد نهى رسول الله عن صيام يوم اليوم الفطر ويوم النحر مما يدل على أن الواجب في الصيام هو صيام كامل الشهر دون زيادة ماقبله أو مابعده. قال النبي:"لا تصوموا قبل رمضان...".

نستدل من هذه الأحاديث على أن سبب وجوب الصيام هو دخول الشهر وليس الرؤية. وقد ضرب الدكتور عبد الكريم زيدان أمثلة على السبب الشرعي (دلوك الشمس لوجوب الصلاة، وشهر رمضان لوجوب الصيام).[6] فمما تقدم نعرف أن السبب الشرعي للصيام هو دخول الشهر، أما الرؤية فهي الوسيلة لمعرفة دخول الشهر وليست هي السبب الشرعي بذاتها. ينطبق الحال نفسه على إكمال العدة، فإن إكمال العدة ليس سبباً شرعياً للصوم كما قال بعض العلماء اعتماداً على الأحاديث النبوية التي تمَّت مناقشتها من قبل، بل  السبب الشرعي هو أنه بإكمال العدة يحصل اليقين بدخول الشهر، وهو المطلوب وجوباً للبدء بالصيام.

إذاً فإن رؤية الهلال، وإكمال العدة كليهما لا يعتبران سبباً شرعياً للصوم، يدل على ذلك أيضاً التعليل الذي حدده النبي لاستخدام الرؤية وهي قوله: "أنّا أمة أميّة لا نقرأ ولا نحسب. الشهر هكذا وهكذا" فمادام هناك شرطاً وسبباً لاستخدام الرؤية فإنها تزول بزوال شرطها وسببها، فإذا ذهب شرط أميّة الأمة، فليس هناك داع للإبقاء على مابُني على ذلك السبب، من أمثال ذلك قوله تعالى: "فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر.." فإن رخصة عدم الصيام للمريض والمسافر تزول بزوال سببها، فإذا دخل الشهرُ والمسلم مريض رُخّص له بعدم الصيام، فإن تعافى قبل نهاية الشهر وجب عليه الصيام، فزالت الرخصة بزوال سببها.

ثالثاً: إذا قلنا أن الرؤية ليست مطلوبة في الثلاثين من شعبان لأن الرسول قال "فإن غم عليكم أكملوا ثلاثين يوماً" فإنني أقول أن هذا القول النبوي يأمر بإكمال ثلاثين يوماً في حالة الطقس الغائم، ولا يقول لا تروا القمر الجديد في الثلاثين من شعبان إذا لم يكن الطقس غائماً في التاسع والعشرين منه؛ أي، لنفرض أن الطقس لم يكن غائماً في التاسع والعشرين من شعبان، وأن القمر لم يُر في ذلك المساء، أليس من المفروض أن يطالبنا الحديث بالرؤية في الثلاثين من شعبان فيما إذا كانت الرؤية هي المطلوبة بحد ذاتها وأنها فرض بعينها لبدء الصيام. لكن عبارة (إذا غُمّ عليكم)  المشروطة بالغمام تعني فقط عندما يكون الطقس غائماً، ولا تعني عندما لا يكون كذلك. ولو أن الرؤية هي المطلوبة بحد ذاتها، إذاً لطالَبنا بها النبي حتى في الثلاثين، وخاصة عندما تتعذر رؤية الهلال الجديد ليس بسبب الغمام ولا بسبب عدم وضوح الرؤية وإنما لأنه ليس موجود أصلاً في الأفق. لكن عندما نفهم أن الرؤية ليست مطلوبة لنفسها بل هي وسيلة لتحري الدقة، وأن الدقة في بداية ونهاية الشهر هي المطلوبة بحد ذاتها، ففي هذه الحالة نستطيع أن نفهم الحاجة إلى الرؤية في التاسع والعشرين من شعبان، وليس الحال كذلك في الثلاثين منه.

رابعاً: الرؤية ليست شرطاً للصوم حتى في التاسع والعشرين من شعبان. ولو أنها كذلك لما كان يُسمح لأي مسلم أن يبدأ شهر رمضان إلا بعد رؤية الهلال الجديد في التاسع والعشرين من شهر شعبان. لكن ابن عمر، والسيدة عائشة، وأسماء بنت أبي بكر، كانوا يبدؤون الصيام في اليوم التالي إذا كان الطقس غائماً في التاسع والعشرين من شعبان دون رؤية الهلال الجديد بسبب عدم وضوح الرؤية كما سنفصّل في الصفحات القادمات. وإنهم لم يكونوا يصومونه على أنه صوم تطوع، وإنما على كونه يوماً مفروضاً من رمضان. وهذه كانت الحالة مع كثير من التابعين، ومع مدرسة فقهية بأكملها حيث اعتمدت هذا الرأي. الإمام أحمد تبع عمل هؤلاء الصحابة، وتبنى هذا الرأي وكل المدرسة الحنبلية تبنت هذا الرأي بعد ذلك. ومن المهم معرفة أن ابن عمر هو الراوي الأصلي للعديد من الأحاديث الصحيحة والتي تطالب بالرؤية لتحديد الصيام. فعلى سبيل المثال:

"حدّثنا عبدُ اللّهِ بنُ مَسْلمةَ عن مالكٍ عن نافعِ عن عبدِ اللّهِ بنِ عُمَر رضيَ اللّهُ عنهما: «أنَّ رسولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ رَمضان فقال: لا تَصوموا حتّى تَرَوُا الهلالَ، ولا تُفْطِرُوا حتّى تَرَوْه، فإِن غُمَّ عليكم فاقدُروا له»[7]

"حدثنا عبد الله ، حدثني أبي ، حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تصوموا حتى تَرَوا الهلال، ولا تفطروا حتى تَرَوْه، فانْ غُمَّ عليكم فاقْدُرُوا له".[8]

كما سنرى أن ابن عمر كان يبدأ شهر رمضان بمجرد العدّ لأيام شهر شعبان، وبدون الرؤية للهلال الجديد في حالة الطقس الغائم في التاسع والعشرين من شهر شعبان. إن هذا التصرف من ابن عمر الراوي الأصلي لأحاديث الرسول، والتي تطالب بالرؤية البصرية للتثبت من دخول أو عدم دخول شهر رمضان، يفسّر المعنى الحقيقي للأحاديث، ويمهد للنقاش الثاني الأكثر أهمية، وللرأي الثاني للجمهور، وهو مفهوم العلاقة بين الأسباب والمسببات؛ أي بين الرؤية البصرية وبين الصيام، فلا يُعقل أن تكون الرؤية البصرية هي بذاتها السبب الشرعي المُحدِّد للصيام أو لشهر رمضان، لكن المقصود من وراء اللجوء إليها هو تحري الدقة.

ومن الضروري الانتباه إلى النقطة التالية بينما نناقش هذا الموضوع .

من الثوابت المعروفة عند الفقهاء أن الرؤية البصرية ليست شرطاً بنفسها في تحديد شهر رمضان كما يقول محمد بن علي بن دقيق العيد الفقيه الشافعي المعروف.

 "وَلَيْسَ حَقِيقَةُ الرُّؤْيَةِ بِشَرْطٍ مِنْ اللُّزُومِ ; لِأَنَّ الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّ الْمَحْبُوسَ فِي الْمَطْمُورَةِ إذَا عُلِمَ بِإِكْمَالِ الْعِدَّةِ , أَوْ بِالِاجْتِهَادِ بِالْأَمَارَاتِ : أَنَّ الْيَوْمَ مِنْ رَمَضَانَ , وَجَبَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ وَإِنْ لَمْ يَرَ الْهِلَالَ . وَلَا أَخْبَرَهُ مَنْ رَآهُ".[9]

ويقول الفقيه الحنفي المعروف سعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني أن جميع فقهاء المسلمين يجمعون على أن رؤية القمر الجديد هي فقط وسيلة وليست فرضاً بنفسها:

" ِأَنَّ قوله تعالى { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ } مَعْنَاهُ شَاهَدَ الشَّهْرَ فَالشُّهُودُ عِلَّةٌ وَأَيْضًا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام { صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ } يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ إذْ لَيْسَ الْمُرَادُ حَقِيقَةَ الرُّؤْيَةِ إجْمَاعًا بَلْ مَا يَثْبُتُ بِهَا وَهُوَ شُهُودُ الشَّهْرِ".[10]

أما الشيخ مصطفى الزرقاء فيقول في ذلك:

"وما دام من البديهات أن رؤية الهلال الجديد ليست فى ذاتها عبادة فى الإسلام، و إنما هي وسيلة لمعرفة الوقت، وكانت الوسيلة الوحيدة الممكنة فى أمة أمية لا تكتب ولا تحسب، و كانت أميتها هي العلة فى الأمر بالاعتماد على العين الباصرة، وذلك بنص الحديث النبوي مصدر الحكم".[11]

صحيح أن النبي كان قد وصف الرؤية البصرية بأنها الطريقة الوحيدة المتوفرة لدى المسلمين للتثبت من دخول شهر الصيام، أوالتثبت من عدم دخوله، لكنه ذكر أيضاً السبب وراء قوله هذا؛ وذلك أن الأمة في ذلك الوقت كانت أمة أميّة لا تكتب ولا تحسب .

إضافةً إلى ذلك نجد أن الفعل (رأى، يرى) أو الرؤية وردت في القرآن في مواضع كثيرة، كما وردت في الأحاديث النبوية بصورة يستحيل معها أن يكون المعنى هو الرؤية البصرية بالعين المجردة وحسب، بل إن المعنى يذهب في كثير من هذه الآيات والأحاديث إلى التفكير والتدبر واليقين.

كما أن مشتقات الفعل يرى قد تكررت في القرآن الكريم حوالي 328 مرة، وليست كلها بالمعنى القريب للرؤية، بل تعدى معناها إلى المعنى الدلالي، والمعنى البعيد، مثل التفكر والتأمل والتدبر واليقين، وهو أمر وارد بكثرة في كلام العرب عموماً وفي كلمات القرآن خصوصاً.

فمثلاً ورد في اللآية 2:432، والآية  2:46  المعنى البعيد والدلالي للفعل رأى وليس المعنى القريب بقوله تعالى:

" ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون". (البقرة:243)

"ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله ..." (البقرة: 246)

ينطبق هذا أيضاً على الآيات 2:258 – 3:23 – 4:44 – 4:49 – 4:60 – 96:9 – 96:13 – 107:1 وعدد آخر من الآيات.

وإذا عدنا إلى الحديث المتعلق بالصوم، نرى أن إستخدام الرؤية البصرية في الحديث لا يبدو أنه هو الهدف بذاته، بل إن الهدف هو تحري الدقة المطلوبة لبداية الصيام

"حدّثنا مُسدَّدٌ حدَّثَنا عبدُ الواحدِ حدَّثَنا الشَّيْبَانِيُّ قال: سمعتُ عبدَ الله بنَ أبي أوفى رضيَ الله عنهُ قال: «سِرْنا معَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وهوَ صائمٌ، فلما غَرَبتِ الشمسُ قال: انزل فاجدَحْ لنا، قال: يارسولَ الله لو أمسَيتَ؟ قال: انزِلْ فاجدَحْ لنا، قال: يارسولَ الله إِنَّ عليكَ نهاراً، قال: انزِلْ فاجدَحْ لنا، فَنَزَلَ فجدَحَ، ثم قال: «إذا رأَيتُم الليلَ أقْبلَ مِن ها هنا فقد أفطَرَ الصائمُ»، وأشارَ بإِصبَعِه قِبَل المَشرِق".[12]

"حدّثنا إسحاقُ الواسِطيُّ حدَّثَنا خالدٌ عن الشَّيْبانيِّ عن عبدِ الله بنِ أبي أوفى رضيَ الله عنهُ قال: «كنّا معَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في سَفَرٍ وهوَ صائمٌ، فلمّا غَرَبَتِ الشمسُ قال لِبعضِ القومِ: يافلانُ قم فاجدَحْ لنا، فقال: يارسولَ الله لو أمْسَيْتَ؟، قال: انزلْ فاجدَحْ لنا، قال: يارسولَ الله فلو أمْسَيْت؟ قال: انزِلْ فاجدَحْ لنا، قال: إِنَّ عليكَ نهاراً، قال: انزِلْ فاجدَحْ لنا. فنزَلَ فجَدَحَ لهم، فشَرِبَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قال: إذا رأيتمُ الليلَ قد أقْبَلَ مِن هاهنا فقد أفطَر الصائم".[13]ُ

"حدّثنا عليُّ بن عبدِ الله حدَّثَنا جريرُ بن عبدِ الحميد عن أبي إسحاقَ الشيبانيِّ عن عبدِ الله بن أبي أوفى قال: «كنا في سَفَرٍ مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فلما غَرَبَتِ الشمسُ قال لرجلٍ: انزِل فاجدَحْ لي. قال: يا رسولَ الله لو أمسيت. ثم قال: انزل فاجدَح. قال: يا رسول الله لو أمسيتَ، إن عليك نهاراً. ثم قال: انزِل فاجدَح، فنزل فجدَحَ له في الثالثة، فشَرِبَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ثم أومأ بيدِهِ إلى المشرق فقال: إذا رأيتُمُ الليلَ قد أقبلَ من ها هنا فقد أفطَرَ الصائم".[14]

في هذه الأحاديث نجد أن الرسول قد استخدم كلمة (رأيتم) فيما له علاقة بإفطار شهر رمضان فقد قال: "إذا رأيتم الليل أقبل من المشرق"، وإذا أردنا أن نأخذ هذا الكلام بشكل حرفي فإن علينا أن نخرج كل مساء لرؤية الليل المقبل من الشرق قبل أن نفطر تلك الليلة. غير أنّا في زماننا الحالي لا يخرج أحد في المساء ليرى إذا ما غابت الشمس لكي يفطر، بل إن المسلمين حول العالم يستخدمون الحسابات الفلكية لمعرفة أوقات الإفطار والإمساك. في أيام الرسول لم يكن أمام المسلمين الكثير من الخيارات، لهذا فقد اعتمدوا أكثر الطرق المتوفرة لديهم دقةً وصحة، أما في أيامنا هذه، فهناك طرق أخرى أكثر دقة وصحة في تحديد أوقات السحور والإمساك، ولا يعترض على استخدامها أي من الفقهاء.

قال الله: "وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل..."(البقرة: 187)

بالإضافة لهذا فإن الأمة الإسلامية وعلى مدى القرون العديدة الماضية اعتمدت على الأقطاب والظل لتحديد أوقات الصلوات الخمس. والرسول قال باتباع ظل الشمس لتحديد أوقات الصلوات الخمس. لكننا حديثاً نعتمد على الحسابات الفلكية في تحديدها. والكلام هنا ليس من مبدأ أن الصلوات الخمس مرتبطة بالنظام الشمسي بينما شهر رمضان مرتبط بالنظام القمري. بل الكلام هنا أن النص القرآني والنص النيوي كليهما مُطبّقان روحاً وغايةً وليس حرفياً وظاهرياً، لأن تطبيقهما حرفياً ليس بفرض في الشريعة في كثير من الأمور. الفرض في الشريعة هو تحقيق الهدف والغاية من النص. يقول الشيخ محمد رشيد رضا "وَأَمَّا هَذَا الِاخْتِلَافُ وَتَرْكُ النُّصُوصِ فِي جَمِيعِ الْمَوَاقِيتِ - عَمَلًا بِالْحِسَابِ مَا عَدَا مَسْأَلَةَ الْهِلَالِ - فَلَا وَجْهَ وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ ، وَلَمْ يَقُلْ بِهِ إِمَامٌ مُجْتَهِدٌ بَلْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ)."[15]

فعلى هذا نقول بأن بالنسبة لإفطار الصائم  فإن المطلوب هو تحري الدقة والتأكد من غياب الشمس، كذلك الحال بالنسبة للإمساك، فالمطلوب هو تحري الدقة، والتأكد من دخول وقت الفجر. وفي وقت النبي كانت الغاية نفسها محققة باستخدام الأساليب التي كانت متاحة لديهم. أما في وقتنا الحاضر فإن الغاية نفسها محققة باستخدام الحسابات الفلكية والساعات، والأمة جمعاء اتفقت على استخدام الحسابات الفلكية في أمور الدين فيما يتعلق بفرائض وعبادات مثل الصيام والصلاة، فالفرائض هي ثابتة، والوصول إلى أدائها بدقة متغيّر بحسب الوضع العام. هذه هي الشريعة الإسلامية المرنة غير الجامدة، والتي تتماشى مع تطورات العصر، وتساير التقدم البشري، فالشريعة الإسلامية ليست شريعة متحجرة بل هي شريعة مرنة، سهلة، وميسرة، فالفرض فيها هو الفرض في كل العصور، لكن الوسيلة في تحقيقه بدقة وأدائه كما أراد الله له أن يُؤدّى هي المتغيرة، بحيث تتماشى مع تغيرات وأساليب وتطورات كل عصر.

إن بعضاً مِن المسلمين المعاصرين يعارض الفكرة السابقة _ألا وهي الوصول إلى الهدف بوسيلة أخرى متاحة ومتوفرة في هذا العصر_ تبنياً لمقولة (الغاية لا تبرر الوسيلة)، ويضربون أمثلة على هذا بقولهم أن الشريعة الإسلامية حددت كذلك بعض المعاني والوسائل للوصول إلى غايات وأهداف إسلامية، مثل الكسب الحلال، والنفقة على العائلة. لكن من غير المسموح للمسلم أن يقوم بأعمال غير شرعية، أو غير مسموح بها في الإسلام كالسرقة مثلاً بحجة أنه يعول عائلته الذي هو في الأصل غرض وهدف شرعي، كذلك الحال بالنسبة للغاية الشرعية في التناسل وحفظ الذرية، فإنه من غير الممكن أو المسموح أن يتبع الفرد وسيلة غير شرعية لتحقيق هدف شرعي؛ فلا يستطيع أن يقوم بالزنى للوصول إلى معنى الإنجاب والذرية.

لكن هذه النظرية وهذه الأمثلة لا تنطبق على موضوعنا في ابتاع الحسابات الفلكية؛ ذلك أن إعالة العائلة بأساليب غير شرعية كالسرقة مثلاً مرفوض قطعاً حيث أن حرمة السرقة وردت واضحة، وحرمت بشكل لا يقبل التأويل سواءً في القرآن أوالسنة. كذلك الحال بالنسبة لارتكاب الزنى إدعاءً للحفاظ على التناسل، لأن الزنى محرم بنفسه، وواضح تحريمه في الشريعة الغراء دون جدال ولا نقاش ولا تأويل. لهذا السبب فإن الوسيلتان اللتان ذكرناهما محرم استخدامهما فيٍ تحقيق الغاية الشرعية لأنهما محرمتان بنفسيهما في الشريعة. فالحال لا ينطبق على كلامنا عن الحسابات الفلكية. كما أنه هناك أمثلة كثيرة في القرآن الكريم، والتي تندرج تحت نفس الروح وهي تحقيق الهدف والفرض المحدد في الشريعة بالوسائل المتاحة في كل زمان ومكان حتى وإن كانت مخالفة للوسائل المذكورة في النص الشرعي لأن الغاية هي المفروض تحقيقها وليس الوسيلة، ذلك إذا لم تكن الوسيلة محرمة لذاتها كما أسلفنا.

ففي الآية الكريمة في سورة الأنفال:

"وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا ٱسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ ٱلْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِۦ عَدْوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ ٱللَّهُ يَعْلَمُهُمْۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَىْءٍ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لا تُظْلَمُونَ". (الأنفال:60)

إن الله في هذه الآية ذكر بوضوح أن إعداد الخيل هو القوة، وهو من الأساليب المتّخذة  لإخافة العدو. إلا أن الرسول ذكر بوضوح تام أن السهام هي القوة حيث قال: "حدثنا أبو كريب، قال: ثنا سعيد بن شرحبيل، قال: ثنا ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، وعبد الكريم بن الحرث، عن أبي عليّ الهمدانيّ، أنه سمع عقبة بن عامر على المنبر يقول: قال الله: وأعِدُّوا لَهُمْ ما اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الخَيْلِ ألا وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر «قالَ اللَّهُ: وأعِدُّوا لَهُمْ ما اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ألا أنَّ القُوَّةَ الرَّمْيُ ألا إنَّ القُوَّةَ الرَّمْيُ» ثَلاثا".[16]

كما أن عكرمة مفسر القرن الأول المشهور شرح أن الأية تعني أناث الخيول. "حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن شعبة بن دينار، عن عكرمة، في قوله: وأعِدُّوا لَهُمْ ما اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوةٍ قال: الحصون. وَمِنْ رِباطِ الخَيْلِ قال: الإناث".[17]

إنه لمن الغباء بمكان استخدام هذه الأساليب بغية إخافة العدو في زماننا هذا وفي حروبنا، بل هو مناقض للأية الكريمة، حيث أن الغرض من الآية والفرض الذي فرضه الله علينا هو إخافة العدو المقاتل وغير المقاتل، فإننا إذا اتبعنا نفس الأساليب المذكورة في الآية من إعداد الخيل أو ما ذكره رسول الله من إعداد السهام فسيؤدي هذا ليس إلى عدم تحقيق الغاية من الآية _وهي إخافة العدو_ بل إلى تحقيق نقيضها، أي أننا إذا فعلنا هذا في وقتنا الحاضر فإننا لن نكون قادرين على إخافة العدو المقاتل فحسب بل سوف نغري المقاتل بالاستمرار في قتالنا، وسنغري غير المقاتل بقتالنا حيث أنه لا يوجد لدينا ما يخشى منه.

إذاً فإن اتّباع الأساليب المذكورة في القرآن والسنة لإخافة العدو في وقتنا الحالي لاينحصر فقط في عدم تحقيق الغاية منه وهي إخافة العدو، إنما يتجاوزه في ذلك إلى نتائج عكسية، فلو تمسكنا به بحجة أن الله ورسوله فرضاه علينا في القرآن والسنة صراحة، فإننا بذلك نضحي بالهدف في سبيل الحفاظ على الوسيلة.

لذلك فإن تبني وسيلة معاصرة لتحقيق الهدف ليس فقط غير محرم بل هو فرض علينا أن نستخدم الأساليب الحربية في أيامنا. ولا يوجد أي نص شرعي يحرم علينا استخدام الدبابات والصواريخ والطائرات الحربية، فهل هناك أي عاقل يطالب باستخدام الخيول والسهام في المعارك في أيامنا هذه لأن الله ورسوله ذكراها في نصوص من القرآن والسنة!

كذلك الحال بالنسبة للحسابات الفلكية فهي وسيلة لتحقيق الهدف الشرعي ألا وهو تحري الدقة واليقين. وإن رفض الأحاديث النبوية لهذه الحسابات قديماً مرتبط بعلة محددة وهي أن الغالبية العظمى في الأمة كانت أمية، جاهلة بالحسابات الفلكية المتطورة، كذلك كان الحال بالنسبة للأجيال التي لحقتها.

من المنصف القول بأن فقهاء السلف كانوا على حق في رفض الحسابات الفلكية، حيث أنها كانت غير صحيحة،ولا تعتمد على علم صحيح دقيق، بل كان القائمون عليها جماعة من المنجمين والسحرة. أما في وقتنا الحاضر فإن الحسابات الفلكية لم تعد من اختصاص المشعوذين أو السحرة أو المنجمين، بل هي علم خاص يقوم به علماء الفلك الذين يقدمون نظرياتهم على أسس الحقائق والمشاهدات العلمية البحتة. حيث أن نسبة الخطأ في هذه الحسابات هي الصفر تقريباً. فإذا فهمنا أسباب رفض علماء السلف لها، فكيف  نفهم رفض بعض العلماء المعاصرين لهذا العلم بعد أن وصل في القرن الواحد والعشرين في أمريكا وأوروبا إلى ذروته.

فعلى سبيل المثال قال الفقيه الحنفي زين الدين بن ابراهيم بن نجيم:

"نَقَلَ فِي الْإِمْدَادِ عَنْ شَرْحِ الْمَنْظُومَةِ لِابْنِ الشِّحْنَةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكَاهِنِ وَالْعَرَّافِ فِي الْحَدِيثِ مَنْ يُخْبِرُ بِالْغَيْبِ أَوْ يَدَّعِي مَعْرِفَتَهُ فَمَا كَانَ هَذَا سَبِيلَهُ لَا يَجُوزُ , وَيَكُونُ تَصْدِيقُهُ كُفْرًا أَمَّا أَمْرُ الْأَهِلَّةِ فَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ بَلْ مُعْتَمَدُهُمْ فِيهِ الْحِسَابُ الْقَطْعِيُّ فَلَيْسَ مِنْ الْإِخْبَارِ عَنْ الْغَيْبِ أَوْ دَعْوَى مَعْرِفَتِهِ فِي شَيْءٍ أَلَا تَرَى إلَى قوله تعالى { وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ }"ُ.[18]

وناقش الشيخ تقي الدين على بن عبد الكافي السبكي (683-756) هذا الكلام مستدلاً بالحديث ومستخلصاً بما لا يقبل الشك ما يلي:

"وَلَا يَعْتَقِدُ أَنَّ الشَّرْعَ أَبْطَلَ الْعَمَلَ بِمَا يَقُولُهُ الْحِسَابُ مُطْلَقًا فَلَمْ يَأْتِ ذَلِكَ , وَكَيْفَ وَالْحِسَابُ مَعْمُولٌ بِهِ فِي الْفَرَائِضِ وَغَيْرِهَا , وَقَدْ ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ الْكِتَابَةُ وَالْحِسَابُ , وَلَيْسَتْ الْكِتَابَةُ مَنْهِيًّا عَنْهَا فَكَذَلِكَ الْحِسَابُ".[19]

أما في ما يتعلق بالقول بصعوبة إعتماد العامة على الحسابات الفلكية فعلينا أن نذكر أننا نعيش في عصر أصبح العالم فيه قرية صغيرة، حيث تنتقل المعلومات من أقصى الأرض إلى أقصاها في دقائق، بل في ثوان. لهذا، فالكلام عن صعوبة هذا الإجراء كما قال الإمام النووي وغيره من العلماء لم يعد له مكان في زماننا. في الواقع إن العكس هو الصحيح كما يرى الدكتور القرضاوي، فإن المسلمين حول العالم وخاصة في الغرب يعانون بشدة من اعتمادهم على الرؤية البصرية في تعيين الشهر. فبعضهم يضطر إلى الإنتظار حتى منتصف الليل ليتمكن من معرفة ما إذا كان ذلك اليوم هو آخر أيام رمضان وأن العيد في اليوم الذي يليه، أو أنه ليس كذلك فيصلي التراويح إكمالاً لعدة الشهر. هذه الصعوبات تؤثر بشكل جدي على العمال والموظفين والطلاب المسلمين، حيث يصعب عليهم تحديد يوم العيد الذي سيأخدونه إجازة من العمل أو المدرسة، مما يوقعهم في إشكلات، ويخلق لهم إحراجات مع أرباب أعمالهم. لذلك فبالنسبة لمسلمي الغرب فإن الاعتماد على الرؤية البصرية هي الطريقة الصعبة والشاقة في أيامنا، والتي تؤدي إلى حرج شديد لهم، وإلى تعسير أمورهم، وليس العكس.

أما بالنسبة إلى الحرج في استخدام الحسابات الفلكية في أمور الدين، فإننا نرى أنه قد تم الإقرار بالسماح باستخدام هذه الحسابات منذ وقت طويل في تعيين أوقات الصلوات الخمس، وتعيين أوقات الفطور، والسحور، وحتى في تعيين اتجاه القبلة. فمنذ وقت طويل لم يكتف العلماء بقبول الحسابات الفلكية في أمورالدين فقط بل طالبوا المسلمين بتعلمها.

"قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ عِلْمَ النُّجُومِ إلَى قِسْمَيْنِ : الْأَوَّلُ : حِسَابِيٌّ : وَهُوَ تَحْدِيدُ أَوَائِلِ الشُّهُورِ بِحِسَابِ سَيْرِ النُّجُومِ . وَيُسَمَّى مَنْ يُمَارِسُ ذَلِكَ الْمُنَجِّمَ بِالْحِسَابِ . وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ مُمَارَسَةِ التَّنْجِيمِ بِهَذَا الْمَعْنَى , وَتَعَلُّمِ مَا يُعْرَفُ بِمَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ وَالْقِبْلَةِ , بَلْ ذَهَبَ جُمْهُورُهُمْ إلَى أَنَّ ذَلِكَ فَرْضُ كِفَايَةٍ . وَجَاءَ فِي حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ : وَالْحِسَابِيُّ حَقٌّ , وَقَدْ نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ فِي قَوْلِ الْحَقِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ } . وَأَجَازَ الْفُقَهَاءُ الِاعْتِمَادَ عَلَيْهِ فِي دُخُولِ أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ وَتَحْدِيدِ جِهَةِ الْقِبْلَةِ وَقَالُوا : إنَّ حِسَابَ الْأَهِلَّةِ , وَالْخُسُوفِ وَالْكُسُوفِ قَطْعِيٌّ , فَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَجْرَى حَرَكَاتِ الْأَفْلَاكِ وَانْتِقَالَاتِ الْكَوَاكِبِ عَلَى نِظَامٍ وَاحِدٍ دَائِمٍ , وَكَذَلِكَ الْفُصُولُ الْأَرْبَعَةُ . وَالْعَوَائِدُ إذَا اسْتَمَرَّتْ أَفَادَتْ الْقَطْعَ , فَيَنْبَغِي الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا , وَفِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ".[20]

وقد ذكرالفقيه الحنفي المعروف أحمد بن محمد الحموي منذ القديم ما يشابه ذلك القول بقوله: 

"وَأَمَّا مُجَرَّدُ الْحِسَابِ مِثْلُ ظُهُورِ الْهِلَالِ فِي الْيَوْمِ الْفُلَانِيِّ وَوُقُوعِ الْخُسُوفِ اللَّيْلَةَ الْفُلَانِيَّةَ فَإِنَّهَا أُمُورٌ حِسَابِيَّةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَرْصَادٍ وَاقِعَةٍ فَلَا تَدْخُلُ فِي نَهْيِ النَّبِيِّ صلى الله تعالى عليه وسلم , وَيُؤَيِّدُهُ مَا يُجَوِّزُونَهُ مِنْ تَعْلِيمِ قَدْرِ مَا تُعْلَمُ بِهِ مَوَاقِيتُ الصَّلَاةِ وَالْقِبْلَةِ". [21]

ربما هذه هي الأسباب التي جعلت الشيخ مصطفى الزرقاء يتعجب من العلماء الذين مازالوا يصرون على رفض الأخذ بالحسابات الفلكية لتعيين بداية الشهر من عدمه مع قبولهم الأخذ بتلك الحسابات في أمور تعبدية أكثر أهميةً وتكراراً مثل الصلوات الخمس. لقد كان فقهاء السلف على حق في رفضهم للحسابات الفلكية في أيامهم؛ فالعلم وقتها لم يصل إلى هذه الدرجة من الدقة والصحة كما هو الآن . لهذا لم يسعهم الاعتماد عليها في العبادات كالصيام لعدم دقتها الحتمية. فإذا كانوا على حق في ما ذهبوا إليه، فهل يصح لنا أن نعتمد رأيهم في أيامنا هذه بعد كل هذا الارتقاء والصحة والدقة التي صار يتسم بها هذا العلم، وبعد أن زالت كل الأسباب التي اتخذوها سبباً لمنعه وعدم قبوله. يقول الزرقاء:

"وما دام من البديهات أن رؤية الهلال الجديد ليست فى ذاتها عبادة فى الإسلام، و إنما هي وسيلة لمعرفة الوقت، وكانت الوسيلة الوحيدة الممكنة فى أمة أمية لا تكتب ولا تحسب، و كانت أميتها هي العلة فى الأمر بالاعتماد على العين الباصرة، وذلك بنص الحديث النبوي مصدر الحكم، فما الذي يمنع شرعا أن نعتمد الحساب الفلكي اليقيني، الذي يعرفنا مسبقا بموعد حلول الشهر الجديد، ولا يمكن أن يحجب علمنا حينئذ غيم ولا ضباب إلا ضباب العقول؟"[22]

إن من المسلّمات الفقهية والعامة أن الأسباب والمسببات تمشي دائماً جنباً إلى جنب، وأن وجود العلة هو السبب في وجود الحكم، فإذا زالت العلة زال الحكم، وإذا زال المسبب زال السبب.

 

- عبد الكريم زيدان, الوجيز في أصول الفقه, القاهرة, دارالتوزيع والنشر الإسلامية, الطبعة الأولى 1414هجري, ص.55[1]

- النووي, المجموع, ج.6, ص.270 [2]

- الشاطبي, الموافقات,  [3]

- محمد رشيد بن علي رضا, تفسير القران الحكيم المشهور بتفسير المنار, القاهرة, الهيئة المصرية العامة للكتاب, 1990   ج.2, ص.149-150[4]

- البخاري, ج.6, ص.477[5]

- الزيدان, الوجيز, ص.55[6]

- البخاري, صحيح, ج.6,ص. 478[7]

[8]- أحمد، مسند أحمد, ج.11, ص.78

[9] - تقي الدين أبو الفتح محمد بن علي بن وهب ابن دقيق العيد، إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام، المكتبة الشاملة, ج.2, ص.154

[10]- مسعود بن عمر التفتازاني، شرح التلويح على التوضيح لمتن التنقيح في أصول الفقه، القاهرة، مكتبة صبيح، ج.1، ص.401

[11]- مصطفي الزرقاء، فتاوي مصطفي الزرقاء دمشق، دار القلم، 2001م, ص.163-164

- البخاري, صحيح, ج.7, ص.57[12]

- البخاري, أيضا[13]

- البخاري, ج.16, ص.350[14]

- محمد رشيد رضا, تفسير المنار, ج.2, ص.151[15]

[16]- أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد بن غالب الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن أي تفسير الطبري، المكتبة الشاملة, ج.14, ص.34

[17]- أيضاً.

[18] –  زين الدين بن ابراهيم  ابن نجيم، البحر الرائق شرح كنز الدقائق، بيروت, دار الكتاب الإسلامي، ج.2، ص.284.

[19] -  أبو الحسن تقي الدين السبكي، فتاوى السبكي، ج.1, ص.417

[20]- الموسوعة الفقهية، ج.14، ص.53.

[21]- أحمد بن محمد الحموي، غمز عيون البصائر, بيروت, دار الكتب الإسلامية، ج.2، ص.66.

 

- مصطفى الزرقاء, فتاوى, ص.163-164[22

Related Articles

Research Articles
Embarrassing Pictures of Jesus

Dr. Zulfiqar Ali Shah, Even though the central pivot of all New Testament writings is Jesus Christ and crucial information...

Research Articles
Netanyahu’s Unholy War

Gaza City, home to over 2.2 million residents, has become a ghostly emblem of devastation and violence

Research Articles
Raped and Discarded Princess

Tamar, the only daughter of King David was raped by her half-brother. King David was at a loss to protect or give her much-needed justice. This is a biblical tale of complex turns and twists and leaves many questions unanswered.

Research Articles
Dinah's Rape and Levi's Deception

The Bible is considered holy by many and X-rated by others. It is a mixture of facts and fiction, some of them quite sexually violent and promiscuous. The irony is that these hedonistic passages are presented as the word of God verbatim with serious moral implications.